لا أُبالغ عندما أخبركم أنني أصبت بالفزع مما رأيت!
فقررت أن أزوره في بيته، بل أتعرف على حاله أكثر..
علّه مُحتاج أو حتى لأستفسر منه عن سلوكه الغريب هذا!
وبالفعل، لما ذهبت إليه، لاحظت حاله الحسن، وغنى بيته ظاهراً
فلم أستطع ألا ان أبادر بسؤاله عن تصرفه العجيب في السابق!
فأخبرني مُبتسما:
ياشيخي، لقد رأيت طعاماً صالحا للأكل بداخل صندوق القمامة!
فستنكرت رميه فيها، وفضّلت أن آخذ هذا الطعام،
وأضعه في مكان آخر غير مُهين مثل "صندوق القمامة"!!
ثم أكمل ...
والله! .. لو تعلم فقد مر بي جوع كبير، وإبتلاء عظيم! لا يتحمله أحد!
لذلك، وضعت عهداً بيني وبين ربي، على ألا أترفع عن طعام مهما كان حاله!
هنا بدأت اسأله عن قصته، ليبدأ بسردها لي كـالتالي:
كان لي زوجة عظيمة وإبنة كالقمر، وكنت أحاول جاهدا
أن أقوم بواجبي في رعايتهما و الاحسان إليهما.
فكنت أخرج باحثاً عن عمل من الصباح وحتى المساء، وليس بيدي حيلة!
فأصبحت أعرض نفسي على من يجعلني أجيرا عنده، أو عاملاً يومياً.. فلا أجد!
وأصبحت حياتي في مرحلة ما لا تطاق، أعود إلى البيت
لأرى زوجتي وإبنتي ينتظران مجيئي بشئ قد يرفع عنهم مرارة الجوع!
لدرجة أنه مر ثلاثة أيام لم أستطع خلالها أن أُدخل شيئاً الى بيتي!
حينها، كنت قد شعرت بالفعل، أن حلول الأرض قد إنتهت، وبقيت حلول السماء.
لم ألبث أن فاتحت زوجتي بأمر لو تعلم فهو عظيم
أخبرتها بأن الجوع كافر، ولا يجدر بنا أن نبقى جائعين يلاحقنا الموت على أقرب طريق!
ولدينا هذه البنت التي لاتستطيع الصبر والتحمل كحالنا!
فلِمَ لا تزينيها لأذهب بها إلى سوق العبيد، وأبيعها بمبلغ عله يسد رمق جوعنا
وفي ذات الوقت، تجد هي من يطعمها ويبقيها حية،
وبذلك نسلم على أرواحنا جميعاً من شبح الجوع الذي أصبح يسيطر على حياتنا!
لا أنكرك أن زوجتي عاتبتني وأنكرت عليّ هذه الفعلة،
ولكن أخيراً مالبثت أن رضخت لذلك.
وعزمنا على ذلك بالفعل، فأخذت الفتاة وذهبت إلى السوق،
ليمر رجل ملامحه توحي أنه من البادية، ليبدأ مساومتي
على إبنتي ويرخص من ثمنها حتى إتفقنا في نهاية المطاف
على عشرين ريالاً من الفضة!
ما إن تمت البيعة، حتى ذهبت بالمال الذي جمعته الى
سوق التمور لآخذ بـ ريالين كاملين كمية من التمر وأكتشف بعدها
أنه لاطاقة لي بحمل هذه الكمية بسبب الإجهاد والجوع
فاستأجرت حمّالاً من السوق وبدأت اسرع الخُطى أمامه وأرشده نحو بيتي!
وعندما وصلت إلى البيت، إلتفت خلفي فلم أرى الحمال!
بحثت عنه في جميع الأماكن، ولكن لم أجده!
حينها، قررت العودة الى السوق و البحث عن حمّال آخر
وإعاده شراء كمية من التمر... لـ أكتشف عند قيامي بدفع ثمن التمر الجديد
بأن المال في جيبي قد إختفى!
لقد شعرت بأن هموم الجبال جميعها قد أثقلت قلبي،
ولم يكن لي طاقة لفعل شيء بعد ذلك!
فاستسلمت لقدري وقررت أن أذهب للحرم المكي وأصلي
لله العزيز الجبار وألهث بدعائي، علّه يستجيب لي، وينفسّ كربتي..
وبينما أنا كذلك، رأيت ذاك الشخص البدوي ذاته الذي إشترى إبنتي يطوف
في الحرم ومعه إبنتي!
بقيت أتابعهم حتى وقعت عيني بعينه ورمقني بنظرات لازلت أذكرها حتى الآن!
أقيمت الصلاة بعد ذلك، وصلينا على مقربة من بعض
خلف المقام، ليلتفت نحوي ويخبرني بعصبية:
- من هذه الفتاة التي بعتها لي؟!
أجبته: -هي جارية لدي!
ليرد: - أبداً، لقد ألحيت عليها بالسؤال لتخبرني بأنك أبيها!..
لماذا فعلت ذلك ياهذا؟!
لم أدري كيف أجاوبه في تلك اللحظة ولكن قلت:
-لقد مرت علينا أيام صعبة، لم نذق فيها طعاماً ولا شرابا لأكثر من ثلاث أيام ..
وخفنا الموت من الجوع، لذلك قلت أن أبيع إبنتي
لعل الله ينقذني بها أنا وزوجتي وينقذها من الموت من خلالك!
عندها نظر نحوي الرجل البدوي باستغراب.. ثم قال ,,,
- ياعبد الله، خذ إبنتك، ولا تعيد فعل هذا أبداً..
وأخرج كيساً كبيراً مملوئا بالمال، وأكمل:
فليكن هذا المال من نصيبك، ولكن شرط ألا تعود لفعل هذا الأمر أبداً.
حينها فرحت بشدة، وأقسمت له بأن ذلك لن يتكرر أبداً.
ثم حمدت الله على فضله و سجدت سجدة شكر لله.
بعد ذلك، إصطحبت إبنتي الى السوق لأشتري التمر
وبعض الحاجيات لي ولإبنتي، لأفاجئ بالحمال الذي قابلته أول مرة،
فصرخت فيه: أين كنت ياهذا؟!
فأجابني: لقد أسرعت في المشي لدرجة أنني بحثت عنك في كل مكان ولم أجدك!
فعُدت الى السوق علّي أعثر عليك من جديد، ولله الحمد فقد وجدتك الآن!
حينها، قررت العودة الى بيتي ودعوته ليلحق بنا لنرشده على الطريق..
ولما دخلنا البيت